A review by khuzyma
البيان الدعوي: وظاهرة التضخم السياسي - نحو بيان قرآني للدعوة الإسلامية by فريد الأنصاري

fast-paced

2.25

العهد بالكتاب بعيد.
أذكر أنه وضَّح -من بداية الكتاب- مشروعَه وهو عبارة عن صورة أخرى لِمَن قال: "بتصحيح الأحاديث يتمكَّن الدين"، أو "بمجرد التربية في المساجد"، ونحوه. 
كذلك فريد الأنصاري قال ما معناه أنَّ القرآن يبني الإنسان فيمتد أثر هذا البناء إلى كل شأن، ومنه الشأن السياسي. 
وهذا -ربما لقلة اطّلاعي- أظن ليس له سابقةٌ في التاريخ، ولم تقُم أمةٌ بهذه الطريقة. 
حتى الأئمة رحمهم الله، لمَّا افترضوا شغور الزمان عن الإمام وانقراض حَمَلة الشريعة وقدَّموا لذلك حلولاً، لم يتخيَّلوا أن يكون الحال كما الآن؛ أي وجود تسلُّط خارجي مع اختراق ثقافي حضاري يُفرَض سُلطوياً، لا ضعفاً داخلياً فقط. 
فهل مجرد التذكير بالأعمال التعبّدية هو الحل الذي سيغيّر كل المجالات؟ 
إن نعم، فلا أدري لمَ كثيرون ممن يأخذون بطريقة الأنصاري يسوقون خبرَ الغزالي رحمه الله واعتزاله قتال الصائلين للذكر على سبيل الذمّ، ومثله خبر الذين عكفوا على قراءة البخاري عندما وطئت خيل الصليب الأزهر! فهذه من تلك لكن بأسلوبٍ مُعدَّل. 
لنضرب مثالاً: في محج قلعة في داغستان كان الناس يختبؤون بالكهوف -من كفار الشيوعية- لحفظ القرآن، لكن هل كان هذا كافياً في أي تمكينٍ للدين أو إصلاح كل المجالات كما يزعم فريد الأنصاري، مع أنَّ قصصهم وقصص غيرهم من المسلمين الإيمانية ومحافظتهم على المصحف والمسبحة، قد تكون مما يزيد الإيمان وهي قصص وعظية قد يقصُّها فريد في مجالسه، لكن في الحقيقة هي حفظ وجود الدين فقط، وهذا عظيم ومقصد مُراد، لكن ليس هو المؤثّر في التغيير. بل الجهاد (العمل) هو الذي أحيا الدين في تلك البلاد وجعل له أنياباً يغرسها في الأرض، فحتى لو ضَعُف يبقى أثر هذا العمل صورةً يبني عليها وارثو الراية. فرحم الله شاملاً وخطَّاباً وسليم خان وأبا عمر السيف وجزاهم عن الإسلام خيراً. 
وأزعم - لجهلي- أنَّ مشروع فريد الأنصاري هو كله عبارة عن رد فعل لِمَا رآه من أخطاء وأغلاط لا نجادل في وجودها، حتى وصل لمرحلة الإعجاب برموز النورسي، وتجربة غولن بالتغيير، مع تعظيم شديد للشخصين، فوقع بما أنكر على غيره، وقوعاً أطمّ وأدهى! 
وأظن لفهم مشروع الأنصاري وفهمه هو نفسِه وتقلّباته يجب الاطّلاع على تجربة غولن التي «سَحَرَت» الأنصاري كُليَّةً، وصيَّرها نموذجاً إن لم يكن بمَقَالِهِ فَبِحَالِهِ! 
 
فريد الأنصاري تربويٌّ جيد، لكنه ليس صاحب مشروع تغييري، لذلك لمَّا تتبَّع المعظّمين لطريقته الآن، هم ممن يريدون اعتزال الصراع السلطوي، لأسباب حق أريد بها باطل. 
ففريد وأضرابه، يضربون -كما يقول الشيخ أبو قَتادة- الأمثال للجهاد (مثلاً لا حصراً)، فإذا لم ننتصر في بُقعة، قالوا: انظر، ما انتصرنا، يجب أن نغيّر هذه الطريق. 
وهذا هو الإخفاق الحقيقي! 
فالتغيير الحقيقي، والتمكين للدين فعلاً لا يمكن أن يكون بمجرد بناء الإنسان وتشكيله قرآنياً إن لم يُصاحب هذا التشكيل عمل. الإشكال أن يكون هذا التشكيل/التربية هو شرط صحة في العمل، لكن نقول أنَّ التربية هي عملية مستمرة دائمة؛ ((إنكَ امرؤٌ فيكَ جاهليَّةٌ)) وهذا كان بعد الهجرة والجهاد وأثناءهما. فلا يوجد تربية وتزكية تصل بك إلى مرحلة معينة ثم تتوقف وتبدأ بعدها مرحلة العمل. 
ونقدُه لبعض أمراض الحركة الإسلامية مهمٌ جداً، وتنبيهاته وتشذيبه لحركة الحركة الإسلامية لا بُدَّ أن يكون حاضراً، هذا لا جدال فيه! 
ونقده لتعريفات الباحثين والدارسين للحركة الإسلامية بديع جداً، جداً، ودفاعه عن أصل وجودها يحسُن أن نرجع له، لنتذكّر دائماً سبب النشأة الذي قد يغيب عنا تحت وطأة "الحدث السياسي المتسارع" 
أمَّا محاولته الحثيثة لنزع أي أهمية ومنع أي حضور للسياسة في النصوص، فقد أبعدَ النجعة، ولو قال قائلٌ أنه حرَّف وحوَّرَ، يُبدي ويُخفي كثيراً، لَمَا أغلظَ القول إن شاء الله. فكأنه -في هذه الجزئيَّة خاصةً- اعتقدَ ثم شَرَعَ يستدلُّ.

يُنكَر انكماش الجانب الدعوي والوعظي عند الجماعات، وهو أمر مطلوب داخلياً حتى، لصقل اللياقة الإيمانية عند الأفراد العاملين، لكنه ليس بحد ذاته عملاً تغييرياً، كما يحب الأنصاري تصويره (أو كما أنا فهمت منه)، وهنا سؤال: أين مشروع فريد الأنصاري؟ نعم، تلقّفه أناس كأحمد السيد وأعادوا تدويره، وتراه كثيراً في ثنايا كلام أحمد عبد المنعم، لكن أين التغيير الذي فعله مشروع فريد الأنصاري؟ أين مشروعه الذي ذكر أنه انقطعَ له؟ أين الذين قاموا بتفعيل هذا المشروع عملياً؟ أين أثره في التغيير الذي قال أن طريقته ستغيِِّر كل المجالات؟ 
وما أجزم به إن شاء الله، أنَّ فكرة «المركزيات» ما هي إلا تَفريعٌ على ما كتبه الأنصاري هنا، وهي فكرةٌ -عند الأنصاري أو غيره- غير دقيقة، لأسبابٍ يطول ذكرها، لكن أهم ما يَعيبها عند هؤلاء أنها انتقائية، وكلٌّ «يُمَركزُ» ما يراه مناسباً لمذهبه التغييري، إن كان هناك تغيير أصلاً. 
هنا حاشية: إن قيلَ هم لا يريدون التصريح لأنهم يخافون التضييق، فالأحسن لنا ولهم ألا يُصدِّروا أنفسهم أنهم مُصلحون يرومون تغيير الواقع وتحكيم الدين، فمن لازم ذلك المعاداة والتضييق، وهم بذلك أدرى. 
بل مَن «ورثو» مشروعَه في بلده، ذراعٌ خلفيٌ «للمخزن»؛ فلا ترى لهم صَدعاً، ولا إنكاراً، إنما اجترارٌ للمشاريع الإصلاحية الهزيلة التي هي من الأمراض الضاربة في الأمة، فهم يَدٌ تَثبيطيَّة لا تغييرية أو تحريضية.. وكله في إطار الدعوة طبعاً -_- 
 
وأذكر أني شاهدت قديماً مجلساً للأنصاري له كلام فيه عن العَلَم المغربي والسياسة في البلد إن لم أَهِم وفيه من المدح والتأويل لشكل العَلَم والنجمة وأنها تعبّر عن الإسلام، ما يعجَب له المرء أن يخرج من رجلٍ بعقله، ولا يظلمه مَن يُسمّيه بعدها رجل سلطة! طبعاً لا أقول هو هكذا، لكن مَن لا يعرف الرجل، ويسمع كلامه... 
فهو أرادَ الخروج من الخطأ الذي يراه وهو تضخّم السياسي (وهو خطأ عند الجماعات الإصلاحية والتربوية التي تتأوَّل الحديث فيما يُسمى بالسياسة ولكن هي غارقة فيها، وهذا لا يُنكره متابع عارف بأحوال الإسلاميين الإصلاحيين عامةً وطرقهم)، فصار فريد السياسيَّ نفسه ويُلمّع -متأوّلاً- ظلماً وكفراً بحجة التخفيف منهما، فلا هو أصلحَ ولا هو تركَ الناس يُصلحون، وما كسبَ إلا عاراً وثلماً لتاريخه لا يُمحى. 
 
نهايةً، "التضخّم" الذي يَعيبه، حقُّه أن يُعاب، ورأينا الجماعات السياسية المَحضة كيف انمسخَت عن دينها ورساليّتها، لكن كذا التضخّم الذي عنده كذلك حقُّه أن يُعاب. 
وكما في التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، يقع الأنصاري في ما ينكره على غيره. 
فأرادهم ألا يدخلوا المعتركَ السياسي -ليس بحجة عدم جواز الدخول، بل لعدم الأولوية بالأساس- ثمّ هو صار «مصلحاً» من الداخل والداخل العميق حتى! 
يُنكر «تضخّم» جانب معيَّن، وهو ضخَّم جانباً واحداً اعتبره طريق التغيير الوحيد، وهذا الطريق -لوحده هكذا معلَّقاً- ليس له سابقة في التاريخ أصلاً! 
 
زيادةٌ أخيرة: الصلاح الذاتي الساكن لا يُغيِّر، فكَم رأينا من أهل عبادةٍ أحذيةَ طواغيت، وكم رأينا من مُتنسّكين كانوا أول الناس ركونًا لظلمٍ وكفر! 
وهذا صاحب الحِكَم العطائية، رغم كل ما كتب عن الترفّع عن الدنايا وتجريد التوحيد، وما نُقل عنه من صلاح «ذاتي» كان أكثر الناس وأولهم شكايةً لابن تيمية عند السلطان. 
 
ومن نافلة القول أنَّه لا يُقصَد الحَطُّ من كتاباته، فهي لا شك عظيمة، وفيها تجديد من أوجهٍ كثيرة، لكنها مُتمِّمَةً للحراك الإسلامي الجِهاديّ، لا بانيةً!