You need to sign in or sign up before continuing.

A review by khuzyma
نقد الليبرالية by الطيب بوعزة

informative fast-paced

5.0

منذ تفكك الاتحاد السوڤييتي هيمنَ النموذج الثقافي والاقتصادي الليبرالي، وعادَ لواجهة النقاش السياسي (ويدخل فيه الاقتصادي) المعاصر، لكن ما هي الليبرالية ومَن منظّروها الثقافيون والسياسيون والاقتصاديون؟
وضع الطيّب بو عزّة بحثاً نفيساً جداً، يكاد يكون معجماً مختصراً مهذّباً لليبرالية وأعلامها ومذاهبها، وصحح أغلاطاً كثيرة ذائعة بين المثقفينوالمتخصصين قبل باقي الناس.

يبدأ بحثه بسَبر دلالة مفهوم الليبرالية، ومحاولة تعريفها بغير ما تُعرّف به نفسها بذاك التعريف الدعائي الشعاراتي: الحريّة، بل هذا التعريفهو آيةُ إفلاس هذا المذهب/الفلسفة لأنه يساوي بين «المثال» و«المذهب»، وبما أنّ الحرية مثالٌ من المُثُل الإنسانية ما ينبغي لها أن تُختزَلَفي مذهبٍ أو فلسفة، بل "لا ترادفَ بين الليبرالية والفلسفة والحرية، ومنطقياً لا يوجد بينهما علاقة شمولٍ ولا تضمّنٍ ولا تطابقٍ" 
يُقرُّ الطيّب بأنّ مفهوم الليبرالية "مفهومٌ زئبقيٌّ ينفلتُ من التحديد والتعريف؛ مفهومٌ مخاتلٌ غارقٌ في الالتباس" وهذا ليس فقط فيها، فهيكباقي المفاهيم السياسية تعريفها مُشكِلٌ لاتّصالها بالتاريخ ومحايثتها للواقع وخضوعها لحركته وصراعاته، مما يَعسرُ معه تعريفهاوتحديدها. واجتهاد أصحاب المذهب في الواقع يؤدي لهذا، لذلك وقعت «سلفيّة الاسكندريّة» مثلاً بنحو هذا، عندما حددها أصحابهابحاجاتهم السياسية ففصلوها عن أصلها المتجاوز فاستحالَت حزباً أو مذهباً مضطرباً مُلفّقاً، لا ماهيّة صلبة له.
ولأنّ الليبرالية تشكّلت واقعياً قبل تشكّلها لفظاً اصطلاحياً يجب الحذر عند تعريفها لتعدد أنماطها وتباينها نظرياً وعملياً. لذا يخلُص الكاتبإلى أنّه يجب عدم الاقتصار في تحديد الدلالة على السياق المعجمي بل لا بُدّ من النظر في السياق التاريخي/العملي. ثمّ يمرّ باختصارٍ غيرمُخل على سياق نشأتها التاريخي والثقافي من «الإقطاع» إلى «المصنع» وكان «المثال» المُستخدَمُ هنا هو: الحريّة، فَقُدِّمَ بدلالة معيّنةيناسبُ الظرفَ التاريخي والحاجة لهذا الانتقال، كتحرير القِن (الإقطاع) ليتحوَّل إلى عاملٍ (المصنع) "فالليبرالية لم تنشأ تأكيداً لحريةالإنسان، بل نتيجةَ الحاجة إلى استغلاله بطرقٍ مغايرةٍ للاستغلال القناني؛ طرق جديدة تناسب الثورة الصناعيّة"، ويدلُّ على ذلك أنّ نهبَالبلدان وإبادة السكان صناعة النظام الليبرالي الرأسمالي، وصدرَت هذه الأفعال عن برلمانات ترفع شعار الإخاء والمساواة والحرية! "الليبرالية ونمطها المجتمعي لم يظهرا بناءً على إيمانٍ بالحريّة الشخصيّة، ولم تُنادِ بمبدأ الحرية لسواد عيونها؛ إنما بقصد تخليص القِن من«سياج الأرض» ليتحوَّل إلى مادةٍ قابلةٍ للاستعمال في «المصانع»"، ومن الأمثلة المهمة على ذلك إبراهام لينكولن الذي صرّح غير مرة أنّالحرب لم تكن لإلغاء العبوديّة وإنما لاسترجاع الاتحاد، وكان النموُّ في الشمال يعتمدُ على التصنيع والزراعة الشمالية بعيداً عن القطنالجنوبي، فكانت الطبقة الرأسمالية الشمالية ترى العبوديّة عائقاً أمام التمدد الرأسمالي فكان لا بُدّ من الحَدّ من العبوديّة، وكذلك كانت أرباحشحن القطن وتخزينه في أيدي تجار الشمال، وكان أهم صادرات البلاد وقت الحرب الأهلية فأراد تجار الجنوب بناء أسطول ليشحنوابأنفسهم دون وسيط، وكل هذا كان من أسباب الحرب و«تحرير» الأقنان لا لسواد بَشرَتهم ولا خوفاً عليهم، ولا يُراد بهذا ترجيح الإقطاعيعلى الصناعي وإنما تخليصُ «المثال» من «مسخ المذهب»، فالليبرالية مجرّد "نزوعٍ نحو المثال لا تجسيدٌ له". 
إذاً الشرط التاريخي لنشوء الليبرالية: حاجة التصنيع إلى القِن.

ينتقل بعدها إلى النظرية السياسية الليبرالية ويبحثها بمقاربتين: نَسَقيّة وتاريخيّة.
فحلل ميكاڤيللي استناداً على «الشرط التاريخي»، ومزجه بـ«المقاربة النَّسَقيّة» لفهم جون لوك وتحليل فلسفته، ثمّ أعملَ هذا «التركيب» في مفهوم «فصل السلطات» عند مونتيسكيو.
ويعلل انتقاءه هذه النماذج الثلاث بأنّ معالم النظرية السياسية الليبرالية التي هي:
١- الفصل بين السياسي والأخلاقي: وهو ناظمٌ للنظرية، يعتبر مؤسس هذا الفصل هو ميكافيللي، ويُنبّه عند الحديث عنه على بعضالأخطاء في فهمه، فيرى أنّ النظرية الميكافيللية لا تؤسس للاستبداد بل الحكم الجمهوري ضد استبداد الأمير، ولكن كما ذُكر ليس هذا مااستدعى دراسته لفهم النظرية السياسية بل لتوكيده على فصل السياسي عن الأخلاق الذي هو "المحدد الأكثر اشتغالاً ونَظماً للرؤيةالليبرالية إلى الوجود المجتمعي"
وتحليله لفلسفة ميكاڤيللي من أمتع ما في الكتاب، فقد بدأ أولاً بتجريد النص من الأقنعة التأويلية التي تمنع من فهم مراده، ولم ينظر كعادةالباحثين إلى (الأمير) فقط بل إلى كتابه (الأحاديث) كذلك، إذ من عوائق فهم المتن الميكاڤيللي على وجهه ومعرفة فلسفته: النظر في كتابهالأول دون الآخَر، وكثرة التأويلات وتباينها حتى أصبح من العسير قراءته والتواصل معه دون حضور تلقائي للتفسيرات الشائعة والمتداولة.. والخاطئة أحياناً.
فعند النظر في نصوص ميكاڤيللي نقف على تباينات في النص الواحد أحياناً فنجد تقريرات تناقض بعضها و"دلالات نجد في نصوصه مايؤكّدها وينفيها"، فتارةً يؤكّد على تتبّع الحقيقة الواقعية واستقراء الحدث الواقعي حتى أنّ أحد مؤرّخي العلوم السياسية جعله مؤسس علمالسياسة الحديث، وتارةً يقرر أنّ ما من حدثٍ سياسي إلا ويمكن التنبؤ به بالكهانة الروحيّة!! وتارةً يقدّم النظام الوراثي وأخرى النظامالجمهوري، وحيناً يقول بالتحليل الدائري الخَلدوني وحيناً يقول باستاتيكيّة النظام، أي استمراره بفعل توازن القوى.
والطيّب قد تجاوزَ قفصَي «الشَكلانيّة» و«البنيويّة» في قراءة المتن وذهبَ إلى أنّه يجب النظر لواقع ميكاڤيللي عند كتابته نصوصه ويرى أنّالسياقَ التاريخيَّ يستوعبُ النصَّ الميكاڤيللي ويمكن أن يُعين على جمعهما في مقاربةٍ تأويليّةٍ واحدةٍ تُعينُ على تحديد فلسفة ميكاڤيللي، وردَّعلى بعض التأويلات والتفسيرات وبيَّن عوارها، وخلُصَ إلى أنّ سياق نصوص ميكاڤيللي تاريخياً هي ما يرفع التناقض بين نَصَّيْهِ، فقد كانشاغلُه في (الأمير) توحيدُ إيطاليا فبذا نفهم الظاهر الاستبدادي؛ فهو استبدادٌ مسوَّغٌ مؤقَّتٌ باعتباره شرطاً لتأسيس دولة قوميّة إيطاليّة،وفي (الأحاديث) ينظرُ إلى ما بعد تشكّل الدولة واستواءها.
والناظمُ في كلاهما هو نفعيّة الرؤية الميكاڤيللي، ولذلك يعتبره أسس لقطيعةٍ بين السياسة والأخلاق و"يستحقُّ أن يُعَدَّ الإرهاص الأول للنظريّةالسياسية الليبرالية" وهي بهذا متآلفة مع التحوُّل الحداثي في أوروبا. 
وقد نبَّه تنبيهاً بديعاً مهماً في ثنايا محاججته عن منهجه في تحليل النصّ السياسي، فيقول أنه آتٍ من طبيعة النصّ السياسيّ نفسه الذي"نجده من أكثر النصوص اقتراباً من سياق الحياة وإشكالاتها، فالرؤى والنُّظُم السياسية هي في نشأتها وتطورها محاولةٌ لفهم الواقعوبلورة نظرية لتغييره، ومن ثَمَّ فدراسة النصّ السياسي تحتاجُ ولا بُدَّ إلى مقاربةٍ تستحضرُ ذلك الواقع وتُحيلُ عليه"

٢- الرؤية الذريّة للوجود الاجتماعي: الذي يتجلَّى عند جون لوك الذي هو الآخَر يشوبُهُ التناقض، ولم يكن تناقضاً عملياً فحسب؛ أي لميكن تاجر رقيقٍ صباحاً ومنظّراً للحرية الإنسانيّة مساءً، بل تناقضه معرفيّ/نظريّ؛ ففي (محاولته) لفهم الإنسان يقرر أنّ العقل لا ينتجُ إلامعرفةً نسبيّةً وفي (مقالتَيْهِ) السياسيتين يقرر جازماً يقينيّة نظريّته السياسية القائمة على مفهوم القانون الطبيعي، فالفلسفة اللوكيّة قائمةعلى الرؤية الذريّة للوجودَين الفيزيائي والاجتماعي فماثلَ بين ذرية البناء الكوني وذرية البناء المجتمعي، فيرى المجتمع جَمعاً من الأفراد كماأنّ الكون جَمعٌ من الذرَّات، ويراها الطيّب نوعاً من "الكوسمولوجيا السياسية" التي ليست مكوّناً لنظرية لوك فقط "بل هي أساس الفلسفةالليبرالية في كثيرٍ من تجليّاتها وأساس مأزقها الأخلاقي" وبما أنّ الناظمُ الذي يحكمها هو الناظمُ الذَرّي، كان لُوك مركزياً في المذهبالليبرالي.

٣- النزوع نحو تحرير الفرد المالك: البادي عند مونتيسكيو، وقد كان شاغلُه كيفية التخلّص من الاستبداد وضمان الحريّة، ورغم أنّالحرية أساس تنظيره إلا أنها تخضعُ لنظام الدولة القانونيّ. ومن اللافت في فلسفته أنه يُصنّف النُّظُم السياسية بشيءٍ من اللاعقلانيّة،فعنده أشكالُ السلطة وصورها تخضعُ لشروط طبيعية/إيكولوجيّة؛ فالمناخُ البارد (ويُمثّل له بالنموذج الانكليزي) يُفرز إنساناً نشيطاً ميالاًللمعرفة ولا ينجذب للمادة إلا قليلاً، عكسَ الدول ذات المناخ الحارّ التي تميلُ للكسل ويؤدّي بها لتحبيذ الاستبداد "لأنه يُعفيه عن تحمّلالمسؤولية والنهوض الإرادي القائم بها" وله شروط أخرى غير المناخ هي: الدين، والقوانين، والتاريخ، وعادات السلوك. لذا ينتقد استنساخالقوانين ونقلها كما هي من مجتمع لآخَر.
ونظريّته عن فصل السلطات يشوبها عدم مساواة إذ يرى من حقّ النبلاء أن يكون لهم مجلسٌ في السلطة التشريعية يحافظ على مكتسباتهمومصالحهم. رغم هذا فنجاحُ مونتيسكيو أنه كان واعياً بلحظته التاريخية فأنتجَ ما يناسب سياقها الثقافي والاجتماعي، لكن يمكن نسبتهاإلى أنّ الفرد المقصودَ بالتحرير هنا هو الفرد المالك بمدلوله الاقتصادي. ونقدُ وائل حلاق لمفهوم فصل السلطات في (الدولة المستحيلة) جديرٌ بالقراءة، فقد بيَّن زيفَ دعوى الفصل وعدم واقعيّتها في النظرية الغربية.

وفي النظريّة الاقتصاديّة الليبرالية وهي أوسع النظريات داخل النَّسَق ومتنوَّعة وإن كان يَنظُمُها اعتبار الإنسان كائناً اقتصادياً (Homo Economicus) الذي ينطلق المذهب الليبرالي كله، وهو قولٌ له جذوره في الثقافة الغربية ويتحكَّم بها، وهو مشتركٌ بين الليبرالية الرأسماليةالاشتراكية الماركسيّة، ووجدت «مدرسة فرانكفورت» جذوراً لـ«العقل الأداتي» في الثقافة الهلينيّة كما في (الأوديسّة)، وهي نظرةٌ ليستمحدودة بل يُرادُ لها أن تهيمن وتُعمم على بقية الأنساق الثقافية.
من اللطيف ذكر أنّ ماكس فيبَر في (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) عند تحليله لقصة روبنسون كروزو المعروفة (وهي مأخوذة فيجملتها من (حي بن يقظان) لكن مع ترك التأمُّل والنظر الفلسفي والبحث عن الحقيقة وإبقاء الأحداث الماديّة: صنع الملابس، واكتشاف الناروتدجين الحيوانات وجوه) يؤوِّل ماكس فيبر شخصية روبنسون كروزو بأنه تجسيدٌ لنموذج الإنسان الاقتصادي؛ وهذا الاختلاف بين القصتينمما يعبّر حقيقةً عن الفرق بين العقلية الشرقيّة وخاصةً منها الإسلامية.
يحاول الخطاب الفلسفي الليبرالي اختزال «الجوانيّ» في رغبات جسديّة لتؤولَ إلى رغبةٍ اقتصادية!
وتطرَّق لأنواع الليبرالية -الاقتصادية- كالليبرالية الفيزيوقراطية المرتبطة بالأرض مصدراً للثروة وبالنمط الزراعي أسلوباً في الإنتاج، لكنهاانحصرَت بسبب تركيزها على الأرض وغفلَت عن التحوُّل الصناعي الجاري والانتقال من اقتصاد الأرض إلى اقتصاد السوق.
وكذا تحدّث عن آدم سميث ونظريّته، والتحوُّل من أنّ الثروة لا في الأرض ولا المعادن بل في العمل وهو وحده مُحدد القيمة، والتقسيمالتخصصي للعمل، وهو صريحٌ في تحييد الفضائل الأخلاقيّة عن العملية الاقتصادية وتعالقاتها الاجتماعية. ثمّ ريكاردو الذي استمرّ علىهذا النهج، ثمّ مالتوس والذي خرجت معه أشدّ النظريات الليبرالية معاداةً للإنسان، فكان صريحاً بوجوب منع الإعانات المقدَّمة في حالاتالضرورة كالمجاعة وغيرها، بل اشتدَّ في نقد وعي الفقراء الاجتماعي حتى أنه يلومُ الفقراء على فقرهم ويعتبر الفقر نتيجة غلطهم أنفسهم. ولكنّ مالتوس على عكس سابقيه، لا يرى وجود «يد خفية» تضبط حركة السوق، لذا كان ممن يرون تدخّل الدولة لضبط سير الاقتصاد ممايخالف النيوليبرالية ويوافق الليبرالية الكينزيّة، فقد كان جون كينز يعيشُ اضطرابات النظام الرأسمالي عام ١٩٢٩م، إذ لم يكن الخطابالليبرالي دائماً بهذه الوثوقيّة التي نراها تجلَّت فيما بعد باعتبارها في لحظة نشوةٍ عند فوكوياما «نهايةَ التاريخ» وبددها «التسعةُ عشر» سواءً وافقتَهم أَم خالفتهم، فقد عاشَ النظام الليبرالي الرأسمالي أزمات متتالية، وضعَ كينز حينها حلاً مرتكزاً على وجوب تدخّل الدولة، فقطعَ«يدَ» سميث «الخفيّة»، ويمكن القول إن غالب اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية تقوم على النظرية الكينزيّة، لكن عند بروز أزمة ارتفاعسعر النفط في السبعينات سيخرجُ مذهبٌ هو النيوليبرالية التي زعمَت أنّ الأزمة ليست في ارتفاع أسعار النفط بل في ارتفاع نفقات الدولةعلى الخدمات المُقدَّمة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وكان الحل هو تقليل هذه النفقات والخصخصة والعودة إلى إطلاق الفعل الاقتصادي. وسينجح التيار النيوليبرالي بقيادة اللعين ملتون فريدمان في تقديم نظرية غير محدودة بالاقتصاد بل للعالَم، فستأخذ المنظمات الاقتصاديةكصندوق النقد الدولي بأقوال هذا المذهب ويعمل وفقَ أصوله وفروعه ويضغط على الدول الفقيرة للأخذ به. والحقيقةُ أنه لا «جديدَ» في«النيوليبرالية» بل هي عودةٌ لأصول المذهب، وهذا يعني أنّ السابقة (neo) غير دقيقة لأنّ المراد بها تجديد الأصول مع بقاء النسبة، (وكانمن المُفرِح رؤية أنّ الطيّب بو عزّة ينبه نفس هذا التنبيه في صفحاتٍ لاحقة).
وقد أَلَّهَت النيوليبرالية السوقَ، فهي تراه فاعلاً مطلقاً لا شريكَ له ولا يجوزُ المَساس بقداسته، بل جعلت التشكيك فيه من جنس الهرطقة،فَفريدمان يقول أنّ الكامنَ خلف حجج مَن ينتقد «نمط السوق» هو "نقصُ الإيمان بالحرية نفسها"
والعجيب أنّ النيوليبرالية التي تزعمُ الحرية المطلقة لاقتصاد السوق فتسميه «العولمة» تختزلُ فتح الحدود بحركة السلع في نفاق وهيمنةٍصريحةٍ واستعلاءٍ ثقافي، فالعنصريّة ليست كامنةً في النَّسَق بل صريحةٌ فاقعة!
ثمّ يذكر الشروط الناظمةَ للسوق وهي: الذرية، والشفافية، وحرية الدخول، والسيولة، وتجانس المَنتوج.
وتوحّش النيوليبرالية الفَجّ الذي بات يصرّح بعدم المساواة وأنّ دولة الرفاه كانت مجرد تنازل إبان الحرب الباردة ومراعاة احتياجات الفقراءأصحاب عبئاً لا يُطاق. "لكن لا ينبغي الاندهاشُ من إذاعة هؤلاء لهذا الخطاب الفَجّ، فالصوت النيوليبرالي ليس صوتَ فكرٍ يَصدرُ عن ذاتٍ«إنسانيّة»، بل هو صوت الشراهةِ القاصدةِ إلى الربح الماديِّ فقط، إنه صوتُ النقد/الفلوس! وهل كان للفِلسِ يوماً قِيَمٌ حتى يحتشمَ أويخجل؟"
فالنموذج الذي تقدّمه النيوليبرالية هو: إنسان السوق.
ومن أفضل ما كُتِبَ عن مدرسة شيكاغو ورأسها فريدمان وكوارث الرأسمالية وتوحّشها كتاب (عقيدة الصدمة) لنعومي كلاين.
 
إذاً حرية الإنسان لا يُنظرُ لها من منظورٍ «أنواري» كما يُرَوَّج بل من مدلولٍ اقتصادي يُختزَل في الكائن المالك، وينتهي مع النيوليبرالية"إلى النظر للفرد ليس بوصفه مالكاً يبيع ويشتري بل بوصفه شيئاً مباعاً! أي مجرد مادةٍ يَلوكها التِّرسُ الاقتصادي" 

وأخيراً يناقشُ "في الأخلاق الليبرالية!"
ويمكن تلخيص هذا الفصل بقوله أنه ما من أحدٍ نقدَ الليبرالية إلا وانتبه ونبَّه إلى هامشيّة الأخلاق في المذهب، "لذا حقَّ أن نصحبَ عنوانهذه السطور بعلامة تعجبٍ؛ ذلك لأنّ نسبة الأخلاق إلى الليبرالية أمرٌ مشكوكٌ فيه ابتداءً"
فحتى عندما أراد موريس فلامون الدفاع عن «الأخلاق العملية» في الليبرالية ذكرها في صفحةٍ ونصف كما يقول الطيّب، وعند النظر لهذه«الأخلاق» نجد أنها ما هي إلا تسليعٌ للزهد والصدق ولمبدأ أنّ كل إنسانٍ رَهينٌ بما يفعلُ ومحاسبٌ عليه؛ فنراه يتحدّث عن الادّخار الذييستلزمُ التقشّفَ، واحترام العقود الذي هو نفسه خُلُق نبذ الخيانة، وتحمّل المسؤولية "فكل إخفاق يؤدي صاحبه ثمنه".
صدقَ الطيّب بو عزّة إذ يقول: "إنّ أفضل ما يؤكّد الإفلاسَ الأخلاقي لليبرالية هو دفاعُ الليبراليين عن أخلاقيات مذهبهم!" بل يرى أنّ ماانتهى إليه في عرض المذهب يُثبتُ عدم استحقاق نتاجها لِأَنْ يسمى فلسفةً أخلاقيةً أصلاً، ويدلل على ذلك بذكر فلسفة جيريمي بنتام النفعيّةالمَقيتة، ومنها يصحُّ القول أنّ الفلسفة الأخلاقية الليبرالية هي في جوهرها لا أخلاقية. ويصحح المفهوم الشائع من نسبة «الأخلاق» الليبرالية لأبيقور ويوضّح أنّ اللذة عند أبيقور هي أن يعيش الإنسان في «سلامٍ روحي» مجتنباً الألم ومقللاً من حاجاته ما استطاع، لا أنهنزوعٌ فرداني والتذاذٌ حسيّ يرى الإنسان كينونةً جسديةً يُسعَى لتلبية غرائزها فقط.

فلا حرية في الليبرالية ولا مساواة، فما أدري على إيش مصدّعين راسنا!

وهذا يقودنا لفصله الأخير في حديثه عن الليبراليين العرب المتهافتين، الذين لم يكونوا يستحقون الإفراد بالكتاب، ولا الحديث عنهم هنا.

ويُفنّد في خاتمته حتميّة المشروع الليبرالي، ويؤكّد على عدم استنساخ مشاريعَ جاهزة منبتّة عن واقعها، وأول طريق الإصلاح كما يرى هوالتخلّص من الاستبداد.

الكتاب ممتعٌ لذيذٌ بتحليلاته وعلميّته وتنبيهاته، وعباراته البليغة وسؤالاته الساخرة. 
وأهم ما فيه وه والسياقات التاريحية لم تُذكَر هنا، فالقفز بين السياقات التاريخية التي نشأت فيها كثيرٌ من النظريات قد يمنع من تصوُّر المذهب وشروط نشأته على وجهها، ولكنه موجودٌ في الكتاب على أحسن صورة.