A review by al_sharnaqi
الدفتر الكبير by أغوتا كريستوف, محمد آيت حنا, Ágota Kristóf

5.0

مذ وقت لا أذكره، لم ألتهم رواية بهذا النهم الشديد و العطش البالغ. كدتُ أن أنتهي من قراءة رواية الدفتر الكبير للكاتبة أغوتا كريستوف التي لم يحالفني الحظ بأن ألتقي بها قبل هذه القراءة و قبل أن توافيها المنيّة، في جلسة واحدة بيد أن النوم قد غلبني و تمكن مني بينما أنا أقرأ دون بلوغ نهايتها قراءةً.

لا عجب في أن تكون الكاتبة ذو مكانةٍ أدبيةً مهيب، و في مرتبة عالية لدى قراءها و هي التي مذ أول حرف تتملك فيه القارئ بروايتها الدفتر الكبير بشكل ساحرٍ أخّاذ. ففي الوهلة الأولى التي يقرأ فيها القارئ أولى سطور الرواية حتى تغشاه هالة ذهول من اللغة المنتقاة بعناية و الأسلوب اللطيف في اسقاء القارئ الرواية شيئاً فشيئاً بشكل يسير دون أن يتنبه لكثافتها، حجمها، قيمتها، وزنها و كذلك عمقها الكبير التي كانت الكاتبة تتخذهُ في روايتها.
فالكاتبة كانت تسقي القارئ الرواية بشكل لا يشوبه أي ارباكٍ أو تشويش. تجعله يدخل إلى الرواية و العالم الذي صنعته من الباب المناسب في الوقت المناسب. فكتبت هذه الرواية على تراتب عجيب، و تقسيم بهيٍ حقاً. فالرواية كانت مقسمة على فقرات معنونة، و في كل فقرة، تفضي بشكل سلسٍ إلى الفقرة أو المقطع التالي دون أي تعثر يشعر بها القارئ. فالقارئ بينما يقرأ الرواية، لا يتحسس منها و كأنه دخيل على الرواية. و إنما كان الأمر يبدو و كأن الكاتبة تربت على ظهر القارئ بينما تروي له الرواية بشكل يسير لطيف و تجعله يلج للرواية في الوقت المناسب من الباب المناسب. و لا أنكر أبداً أن لجمال الترجمة دورٌ أيضاً في اللغة، إلا أن هذا لا يلغي التراتب و التسلسل السلس التي كتبت بها الكاتبة هذه الرواية.
فكانت اللغة فيها محكمة، رطبة، سلسة و جدّ قليلة. بيد أنها كانت تقتدر رغم هذا في إيصال كل الألم الذي أفاض بها لكتابة هذه الرواية، للقارئ على الهيئة التي شعرت بها و كيف تمكنت من معالجته ذاك الألم. فنادرٌ ما أجد كاتباً يكتب الألم الذي ألمّ به، ليتداوى منه. إنما معظم الكتاب يكتبون بعدما يتداوون من ما ألم بهم من اعتلالٍ و ضنى. إلا أني هنا، في الدفتر الكبير، كانت الكاتب تكتب لتعالج وجعها و تتطهر من ما ألمّ بها و دنس نفسها. كانت تكتب عن آخرين اختلقتهم استناداً عليها، كأنها تكتب عنها بهيئة مختلفة و في كائنٍ آخر مشابهٍ لها تماماً.
فمن يقرأ الدفتر الكبير، سيجد فيه أنها لا تحمل شيئاً تستحق فيه كل هذا الثناء. لأني أكاد أجزم أن الكاتبة ما كتبته للثناء و لا للقراء، إنما لنفسها تعالج بها ذاتها بصوتٍ عاليٍ أمام الآخرين. فهذه الرواية، لا يقتدر على ملامستها أيّ قارئ. إنما معظم الذي يعرفون بمكامن النفس و خصوصاً، أولئك الذين في نفسهم أثرٌ من تجاربَ كهذه التي حكتها الكاتبة، أو أي تجربة مماثلةٍ لها، تترك ذات الأثر في النفس البشري، هم من سيتمكنون من فهم على ما استحقتْ الكاتبة كل هذا الثناء على روايتها، الدفتر الكبير.
مع هذا، لم تكن الكاتبة تظهر بأي شكل كان في الرواية رغم الألم التي كانت تعتصر منه أثناء ما كانت تكتب هذه الرواية. فلم تكن تؤذي أو تسيء بشبه حضورها و غيابها حتى، للرواية. فهي كانت شبه حاضرةٍ في الموضع المناسب و غائبة تماماً في الوقت المناسب دون أن تشعر القارئ بأي نقصٍ و لا أية زيادة في ذلك. فالرواية كانت متوازنة بشكل ممتاز بحضور كاتبتها فيه و غيابها كذلك من غير أن يشوب الرواية أي تشويش.

إلى جانب ذلك، فإن الشاكلة التي ظهرت بها الرواية، ككتابٍ، كانت ممتازة بل عظيمة. ما كتب في مؤخرة الكتاب، صورة الغلاف، العنوان، و طريقة تقسيم الرواية إلى مقاطع ضئيلة، حيث أن كل مقطع يهتم بأمرٍ ما مغايرٍ لما يهتم به الآخر، و في الوقت ذاته لا ينقطع باتصاله بالمقطعين اللذان يسبقه أحدهم و يتقدمه الآخر. فالمقاطع كانت متناغمة جداً بسلاسة مطلقة، و كل مقطع يفضي إلى الآخر من غير أية عثرة أو نقلة يشعر بها القارئ بينما يقرأ. و مع هذا، كان في نهاية كل مقطع ما يبدو و كأنه لغز يمنح القارئ فيها رغبة المواصلة في القراءة حتى يكتشف حلاً لذاك اللغز الذي يستبين له في نهاية كل مقطع.
بالرغم من أن الكاتبة كانت تتحدث بشكل جلي عن حالة طفلان، إلا أنها كانت ترمي في كل مقطع من مقاطع الرواية إلى شيءٍ ما، لقارئ ما بخلاف ما ترمي إليه لقارئٍ آخر في مقطعٍ آخر. فكل قارئ يقرأ الرواية يظهر له في كل مقطع ما لا يظهر للآخر مما كانت ترمي إليه الكاتبة. و هذا بحد ذاته مقدرة روائية فذة لا يمكن الجدال فيها. فجعل أمرٍ ما يبدو مختلفاً في أعين الآخرين بشكل مغاير مما هو عليه و كأنه يتبدل في كل مرة ينظر إليه الرائي، مقدرة فذة.
علاوة على ذلك، وَ بينما القارئ يقرأ، كانت الكاتبة تزرع في نفسه أمراً مغايراً لما تهمّ الوصول إليه بحديثها. فيشعر القارئ متوهماً بأن الأمر كذا و كذا. و حين يكاد يصدق ما توهمه، بشكل مفاجئ، تدس له الكاتبة في نهاية كل وهمٍ يتوهمه حقيقة ما أرادت أن تبلغه بحديثها الذي ظهر و بدى كما لم ترمي إليه للقارئ منذ البداية. و في كل قراءةٍ يشعر القارئ و كأن الأمر يرعبه فيما لا يقتدر على حسبانه. رغم سلاسة اللغة و الأسلوب و التراتب، إلا أن القارئ لم يكن يقتدر الوصول إلى الكاتبة من خلال روايتها إذ لم ترد له ذلك بإرادة منها هيّ.


أما عن الحبكة و الشخوص، فيمكنني أن أقول أنه في رواية الدفتر الكبير، يتبين لي أن الكاتبة كانت ملمة بشكل كبير بمكامن النفس البشرية. فكيف صنعت الشخوص و خصوصاً بطلا الرواية، الطفلان التوأم، كان إذا ما دل على شيء يدل على أن الكاتبة لها من التجربة النفسية، كما و قد أشرتْ لذلك سابقاً، ما مكنها من معرفة بعض أهم مكامن النفس البشرية التي صاغته بشكل جيدٍ جداً في شخوص رويتها بل على نحوٍ جل حقيقي.
و بسبب ذلك، كان لا يسهل على أيّ قارئ يكون، التمكن من معرفة مرادها و ما كانت ترمي إليه في مجمل روايتها، و الحديث الرئيسي الذي كانت الرواية تتمحور حوله؛ الذي بدى لمعظم القراء أن الرواية كانت تتحدث عن ويلات الحرب و أثرها على الكائن البشري و الذي تجلى في الطفلان التوأم اللذان كانا بالدرجة نفسها بطلا الرواية في الآن نفسه. إلا أن الرواية في حقيقة الأمر لم تكن تتحدث أبداً عن ويلات الحرب و أثره على الكائن البشر الذي بدى لمعظم القراء كذلك. ففهم شأن الكاتبة و ما كانت تعتصر منه وجعاً، كان مستعصياً على أي قارئ لم يكن له تجربة مماثلة أو مشابهة في أثرها النفسي، كما و أشرتُ إلى ذلك قبلاً.
إلى جانب أنيّ لن أتطرق في قراءة الرواية هنا إلى ذكر أحداث الرواية و ما تحكي عنه بأي شكل من الأشكال، فمن يرغب في ذلك، يمكن له قراءة الرواية كيفما شاء. إلا أني أود أن أوضح أن الرواية تتحدث بشكل رئيسي عن حالة طفلان فقدا بشكل مفاجئ والديّهما و ما يكمُنَانه في حياتهما و الذي جعلهم بشكل قاسٍ جداً الاعتماد الكلي على نفسيهما في عمر صغير و في موضعٍ لا يحسنان التصرف فيه؛ و الذي أدى بالنتيجة بشكل لا يتنبهان له إلى التصرف على نحوٍ بادٍ للآخرين بأن تصرفاتهما خاوية من العاطفة البشرية. إنما كون أنهما كانا قد بنيا كل شيء بنفسهما في داخلهما، كانا لا يحسنان التصرف بالشكل الذي يبدوان عليه و كأنهما بشريانٍ وفق قوانين و أساسياتٍ محددة بشرية. فكون أن يتعلم المرء مذ الصغر كل شيء بنفسه من غير أي عونٍ من بالغ، يعرضه بالظهور أمام الآخرين و كأنه جافٌ خالٍ من أي عاطفة. و هذا ما كانت تحيكه الكاتبة في روايتها بجوهره الرئيسيّ.
فأن تُوكل إليك مهِمة الاعتِناء بنفسك فِي سنٍ صغِير، شأنٌ جلّ مهِيب لا يتفهم أثاره أيٌ يكون. و قد كان جلياً أن الكاتبة قد سبق و أن تعرضت لحالة مشابهة تماماً، إن لم تكن تلك الحالة هي ذاتها التي قصته كما أسلفت في روايتها. و أكرر و أقول، أن أيّ قارئ لا يتمكن من فهم الأثر النفسي لكل ما في الرواية، ما لم يخبر الأمر أو يجربه على أقل تعبير بأي شكل من الأشكال. إلا أنني سأصنف هذا من الحبكة الرواية الجيدة التي ظهرت في الرواية. كون أن اختلاق شخصان توأم و جعل القارئ يتمكن من التفريق بينهما رغم أن الرواية منذ البداية و حتى النهاية كانت تتحدث عنهما بصيغة المثنى، ما هو إلا عظيم صنعٍ في الحبكة الروائية.


إن الشأن الأهمّ الذي و لا بد من أن أتطرق إليه قبل أن أختم قراءتي هذه. كيف أن الكاتبة كتبت عن الجنس بشكل مغايرٍ تماماً لكل ما قد سبق لي و أن قرأته في كل الروايات التي قد تطرق لهذا الأمر. فغالباً حين يتحدث أحد الكتّاب أو يتطرق بشكل أو بآخر إلى الجنس في روايته، يظهر للقارئ و كأن لا فائدة ترجى من تطرقه لذلك أو أن الحديث عن الجنس لم يكن إلا ليتلذذ الكاتب فيما يكتب، أو حاجة جنسية أراد البلوغ إليها في كتابته تلك.
بالرغم من أن الجنس مثله مثل أي تصرف يمارسه المرء منّا؛ كالأكل و النوم و غيره. إلا أنه في الروايات، نادراً جداً من يجيد التحدث عنه و كأنه كمثل غيره من نشاطات الإنسان؛ و هذا تماماً ما حدث في الدفتر الكبير.
كانت الكاتبة تتحدث عن الجنس، أو الأحرى أن أقول أن الكاتبة تطرق لأكثر من مرة على مسار الرواية إلى الحديث عن الجنس كما كانت تتطرق إلى الحديث عن الأكل و النوم و العمل و أي شيء آخر يمارسه المرء. فلم يكن يشعر القارئ و كأن الكاتبة ما تطرقت إلى الحديث عن الجنس إلا لتستمتع به بينما تكتب أو تفرغ فيه حاجتها الجنسية. فالأمر كان يبدو و كأن ما تتحدث عنه في مواضع حديث الجنس، ما هو إلا حديثاً عن أكلٍ ما أو نشاطٍ ما يمارسه أحد الطفلان التوأم. و هذا أمر لا بد من الاحتساب لها بشكل إيجابي كبير. فقلّما، و ربما سوف لن تجد كاتباً يتطرق بحديثه إلى الجنس و كأنه يتحدث عن أي نشاطٍ آخر يمارسه المرء.
لهذا، سوف لن أتردد في قولي بأن الرواية لكل الأعمار دونما أيّ استثناء رغم تطرقها لحديثٍ عن الجنس. فالرواية و ما حملته من حديث و قضايا في طرحها كانت تتحدث بشكل خاص للإنسان في أي عمرٍ يكون و في أي مرحلة يكون؛ دونما أي استثناء لذلك. أي أن الرواية كانت تعليمية، تربوية، أدبية، معلوماتية، إلى غيره من الأمور بحسب القارئ الذي يقرأ. و قسّ على ذلك عمر كل قارئ و حسب ما يراه و يفتهم من الحياة.
و على هذا، فإن هذه الرواية ليست لجيل معين، و لا لزمنٍ بعينه؛ إنما هي لكل الأزمان و لكل الثقافات كذلك.

علاوة على كل هذا، فيما مضى، كنت أخشى أن سوف لن أجد رواية متكاملة لهذا الحد، من غير أن يُصرح فيها اسم مدينة ما أو أرضٍ بعينه، إلا أني وجدتُ كل ما كنت أخشى عدم وجوده في هذه الرواية، في الدفتر الكبير، الذي أشعر بالسوء ما إن استذكرت أني لم أصادف القراءة لهذه الكاتبة العظيمة قبل هذه المرة. تماماً هذه الكاتبة العظيمة.

لذلك أيها القراء. بالرغم من أن حجم هذه الرواية صغيرة جداً. و تبدو صغيرة الشأن كذلك لمعظم القراء؛ إلا أني أنوه مرة أخرى، أن هذه الرواية تحتاج لقراءتين على أقل تقدير ليتمكن القراء من بلوغ قيمتها العظيمة. بيّد أن أولئك القراء العظماء، سوف يجيدون حتماً عظمة الرواية في كل صفحة يقلبونها أثناء القراءة. و سوف يتمنون لو أن هنالك تقييماً أعلى من خمس على خمس.